سورة الأعراف - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


عاد رجع إلى ما كان عليه وتأتي بمعنى صار. قال:
تعد فيكم جزر الجزور رماحنا *** ويرجعن بالأسياف منكسرات
ضحى ظرف متصرّف إن كان نكرة وغير متصرّف إذا كان من يوم بعينه وهو وقت ارتفاع الشمس إذا طلعت وهو مؤنث وشذّوا في تصغيره فقالوا: ضحى بغير تاء التأنيث وتقول أتيته ضحى وضحاء إذا فتحت الضّاد مددت، الثعبان ذكر الحيّات العظيم أخذ من ثعبت بالمكان فجرته بالماء والمثعب موضع انفجار الماء لأن الثعبان يجري كالماء عند الانفجار. الإرجاء التأخير، المدينة معروفة مشتقة من مدن فهي فعيلة ومن ذهب إلى أنها مفعلة من دان فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها قالوا مدائن بالهمزة ولا يحفظ فيه مداين بالياء ولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا مدن كما قالوا صحف في صحيفة.
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} أي الكفار {الذين استكبروا} عن الإيمان أقسموا على أحد الأمرين إخراج شعيب وأتباعه أو عودتهم في ملته والقسم يكون على فعل المقسم وفعل غيره سوّوا بين نفيه ونفي أتباعه وبين العود في الملّة وهذا يدلّ على صعوبة مفارقة الوطن إذ قرنوا ذلك بالعود إلى الكفر وفي الإخراج والعود طباق معنوي وعاد كما تقدّم لها استعمالان أحدهما أن تكون بمعنى صار والثاني بمعنى رجع إلى ما كان عليه فعلى الأوّل لا إشكال في قوله أو لتعودن إذ صار فعلاً مسنداً إلى شعيب وأتباعه ولا يدلّ على أن شعيباً كان في ملتهم وعلى المعنى الثاني يشكل لأنّ شعيباً لم يكن في ملتهم قط لكن أتباعهم كانوا فيها، وأجيب عن هذا بوجوه، أحدها: أن يراد بعود شعيب في الملة حال سكوته عنهم قبل أن يبعث لإحالة الضلال فإنه كان يخفي دينه إلى أن أوحى الله إليه، الثاني: أن يكون من باب تغليب حكم الجماعة على الواحد لما عطفوا أتباعه على ضميره في الإخراج سحبوا عليه حكمهم في العود وإن كان شعيب بريئاً مما كان عليه أتباعه قبل الإيمان، الثالث: أن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل التلبيس على العامّة والإيهام أنه كان منهم {قال أولو كنا كارهين} أي أيقع منكم أحد هذين الأمرين على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك والاستفهام للتوقيف على شنعة المعصية بما أقسموا عليه من الإخراج عن مواطنهم ظلماً أو الإقرار بالعود في ملتهم، قال الزمخشري الهمزة للاستفهام والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في ملّتكم في حال كراهتنا أو مع كوننا كارهين انتهى، فجعل الاستفهام خاصاً بالعود في ملتهم وليس كذلك بل الاستفهام هو عن أحد الأمرين الإخراج أو العود وجعل الواو واو الحال وقدره أتعيدوننا في حال كراهتنا وليست واو الحال التي يعبّر عنها النحويون بواو الحال بل هي واو العطف عطفت على حال محذوفة كقوله «ردّوا السائل ولو بظلف محرق» ليس المعنى ردّوه في حال الصدفة عليه بظلف محرق بل المعنى ردّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلف مخرق تقدم لنا إشباع القول في نحو هذا.
{قَد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملّتكم بعد إذ نجانا الله منها} هذا إخباره مقيّد من حيث المعنى بالشرط وجواب الشرط محذوف من حيث الصناعة وتقديره {إن عدنا في ملتكم} فقد افترينا وليس قوله {قَد افترينا على الله كذباً} هو جواب الشرط إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط على الشرط فيمكن أن يخرج هذا عليه وجوّزوا في هذه الجملة وجهين أحدهما أن يكون إخباراً مستأنفاً، قال الزمخشري: فيه معنى التعجّب كأنهم قالوا ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأنّ المرتدّ أبلغ في الافتراء من الكافر يعني الأصلي لأن الكافر مفتر على الله الكذب حيث يزعم أن لله ندّاً ولا ندّ له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد بيّن له ما خفي عليه من التمييز ما بين الحق والباطل. وقال ابن عطية: الظاهر أنه خبر أي قد كنا نواقع أمراً عظيماً في الرجوع إلى الكفر، والوجه الثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام أي والله لقد افترينا ذكره الزمخشري وأورده ابن عطية احتمالاً قال: ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدّعاء مثل قول الشاعر:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا *** ولقيت أضيافي بوجه عبوس
وكما تقول افتريت على الله أن كلمت فلاناً ولم ينشد ابن عطية البيت الذي يقيّد قوله بقيت وما بعده بالشرط وهو قوله:
إن لم أشن على ابن هند غارة *** لم تخلُ يوماً من نهاب نفوس
ولما كان أمر الدّين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على أمر الدنيا لم يلتفتوا إلى الإخراج وإن كان أحد الأمرين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على الكذب أقسم على وقوعه الكفار فقالوا قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملّتكم وتقدّم تفسير العود بالصيرورة وتأويله إن كان في معنى الرجوع إلى ما كان الإنسان فيه بالنسبة إلى النبي المعصوم من الكبائر والصغائر.
{وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} أي وما ينبغي ولا يتهيّأ لنا {أن نعود} في ملّتكم {إلا أن يشاء الله ربّنا} فنعود فيها وهذا الاستثناء على سبيل عذق جميع الأمور بمشيئة الله وإرادته وتجويز العود من المؤمنين إلى ملتهم دون شعيب لعصمته بالنبوّة فجرى الاستثناء على سبيل تغليب حكم الجمع على الواحد وإن لم يكن ذلك الواحد داخلاً في حكم الجمع، وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبّد الله به المؤمنين مما تفعله الكفرة من القربات فلما قال لهم إنا لا نعود في ملّتكم ثم خشي أن يتعبّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبّد به انتهى، وهذا الاحتمال لا يصحّ لأن قوله {بعد إذ نجانا الله منها} إنما يعني النجاة من الكفرة والمعاصي لا من أعمال البرّ، وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول لا أفعل ذلك حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط وقد علم امتناع ذلك فهي إحالة على مستحيل وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه انتهى، وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة مذهبهم أنّ الكفر والإيمان ليس بمشيئة من الله تعالى، وقال الزمخشري: (فإن قلت): وما معنى قوله {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله} والله تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم في الكفر، (قلت): معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الإلطاف لعلمه تعالى أنها لا تنفع فينا ويكون عبثاً والعبث قبيح لا يفعله الحكيم والدليل عليه قوله {وسع ربنا كل شيء علماً} أي هو عالم بكل شيء مما كان ويكون وهو تعالى يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل قلوبهم وكيف تنقلب وكيف تقسو بعد الرّقة وتمرض بعد الصحة وترجع إلى الكفر بعد الإيمان ويجوز أن يكون قوله {إلا أن يشاء الله} حسماً لطمعهم في العود لأن مشيئة الله تعالى بعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة انتهى وهذان التأويلان على مذهب المعتزلة، وقيل: هذا الاستثناء إنما هو تسليم وتأدّب، قال ابن عطية: وتعلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان الكلام إن شاء قوى هذا التأويل انتهى وليس يقوي هذا التأويل لا فرق بين إلا أن يشاء وبين إلا أن شاء لأنّ إنّ تخلص الماضي للاستقبال كما تخلص أنْ المضارع للاستقبال وكلا الفعلين مستقبل وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في {فيها} يعود على القرية لا على الملح.
{وسع ربنا كل شيء علماً} تقدم تفسير نظيرها في الأنعام في قصة إبراهيم عليه السلام.
{على الله توكلنا} أي في دفع ما توعدتمونا به وفي حمايتنا من الضلال وفي ذلك استسلام الله وتمسّك بلطفه وذلك يؤيد التأويل الأوّل في إلا أن يشاء الله، وقال الزمخشري: يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان.
{ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} أي احكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير وقيل بلغة مراد، وقال بعضهم:
ألا أبلغ بني عصم رسولا *** فإني عن فتاحتكم غني
وقال ابن عباس: ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها تعال أفاتحْك أي أحاكمك، وقال الفرّاء أهل عمان يسمون القاضي الفاتح، وقال السدّي وابن بحر: احكم بيننا، قال أبو إسحاق وجائز أن يكون المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف ذلك وذلك بأن ينزل بعدوّهم من العذاب ما يظهر به أنّ الحق معهم، قال ابن عباس: كان كثير الصلاة ولما طال تمادى قومه في كفرهم ويئس من صلاحهم دعا عليهم فاستجاب دعاءه وأهلكهم بالرّجفة، وقال الحسن: إنّ كل نبي أراد هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم.
{وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون} أي قال بعضهم لبعض أي كبراؤهم لاتباعهم تثبيطاً عن الإيمان: {لئن اتبعتم شعيباً} فيما أمركم به ونهاكم عنه، قال الزمخشري: (فإن قلت): ما جواب القسم الذي وطأته اللام في {لئن اتبعتم} وجواب الشرط؟ (قلت): قوله {إنكم إذاً لخاسرون} سادّ مسدّ الجوابين انتهى، والذي تقول النحويون إنّ جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ولذلك وجب مضي فعل الشرط فإن عنى الزمخشري بقوله سادّ مسدّ الجوابين إنه اجتزئ به عن ذكر جواب الشرط فهو قريب وإن عنى به أنه من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم لأن الجملة يمتنع أن تكون لا موضع لها من الإعراب وأن يكون لها موضع من الإعراب {وإذا} هنا معناها التوكيد وهي الحرف الذي هو جواب ويكون معه الجزاء وقد لا يكون وزعم بعض النحويين أنها في هذا الموضع ظرف العامل فيه {لخاسرون} والنون عوض من المحذوف والتقدير أنكم إذا اتبعتموه {لخاسرون} فلما حذف ما أضيف إليه عوض من ذلك النون فصادفت الألف فالتقى ساكنان فحذف الألف لالتقائهما والتعويض فيه مثل التعويض في يومئذ وحينئذ ونحوه وما ذهب إليه هذا الزاعم ليس بشيء لأنه لم يثبت التعويض والحذف في {إذا} التي للاستقبال في موضع فيحمل هذا عليه، {لخاسرون} قال ابن عباس: مغبونون، وقال عطاء: جاهلون، وقال الضحاك: عجزة، وقال الزمخشري: {لخاسرون} لاستبدالكم الضلالة بالهدى لقوله {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم} وقيل تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنه ويحملكم على الإيفاء والتسوية انتهى.
{فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} تقدم تفسير مثل هذه الجملة، قال ابن عباس وغيره: لما دعى عليهم فتح عليهم باب من جهنم بحرَ شديد أخذ بأنفاسهم فلم ينفعهم ظلّ ولا ماء فإذا دخلوا الأسراب ليتبرّدوا وجدوها أشدّ حرّاً من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية فأظلتهم سحابة فيها ريح طيبة فتنادوا عليكم الظلة فاجتمعوا تحتها كلهم فانطبقت عليهم وألهبها الله ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلو فصاروا رماداً.
وروي أن الريح حبست عنهم سبعة أيام ثم سلّط عليهم الحر، وقال يزيد الجريري: سلط عليهم الرّيح سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم، وقال قتادة: أرسل شعيب إلى أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلّة وإلى أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحةً فهلكوا جميعاً وقال ابن عطية: ويحتمل أنّ فرقة من قوم شعيب هلكت بالرّجفة وفرقة هلكت بالظلّة، وقال الطبري بلغني أنّ رجلاً منه يقال له عمرو بن جلّها لما رأى الظلة. قال الشاعر:
يا قوم إن شعيباً مرسل فذروا *** عنكم سميراً وعمران بن شدّاد
إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت *** تدعو بصوت على صمانة الواد
وإنه لن تروا فيها صحاء غد *** إلا الرّقيم تمشي بين أنجاد
سمير وعمران كاهناهم والرّقيم كلبهم، وعن أبي عبد الله البجلي: أبو جاد وهوّز وحطى وكلمن وسعفص وقرشت أسماء كملوك مدين وكان كلمن ملكهم يوم نزول العذاب بهم زمان شعيب عليه السلام فلما هلك قالت ابنته تبكيه:
كلمن قد هدّ ركني *** هلكه وسط المحله
سيّد القوم أتاه *** حتف نار وسط ظله
جُعلت نار عليهم *** دارهم كالمضمحله
{الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها} أي كأن لم يقيموا ناعمي البال رخيي العيش في دارهم وفيها قوة الإخبار عن هلاكهم وحلول المكروه بهم والتنبيه على الاعتبار بهم كقوله تعالى: {فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس} وكقول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وقال ابن عطية: وغنيت بالمكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش رخي هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة وأنشد على ذلك عدّة أبيات ثم قال وأما قول الشاعر:
غنينا زماناً بالتصعلك والغنى *** فكلاًّ سقانا بكاسيهما الدهر
فمعناه استغنينا ورضينا مع أنّ هذه اللفظه ليست مقترنة بمكان انتهى، وقال ابن عباس: كأن لم يعمروا، وقال قتادة: كأن لم ينعموا، وقال الأخفش: كأن لم يعيشوا، وقال أيضاً قتادة وابن زيد ومقاتل: كأن لم يكونوا، وقال الزجاج: كأن لم ينزلوا، وقال ابن قتيبة: كأن لم يقيموا و{الذين} مبتدأ والجملة التشبيهية خبره، قال الزمخشري: وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل {الذين كذبوا} شعيباً المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في دارهم لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى انتهى، وجوّز أبو البقاء أن يكون الخبر {الذين كذبوا شعيباً} كانوا هم الخاسرين و{كأن لم يغنوا} حال من الضمير في {كذبوا} وجوّز أيضاً أن يكون {الذين كذبوا} صفة لقول الذين كفروا من قومه وأن يكون بدلاً منه وعلى هذين الوجهين يكون {كان} حالاً انتهى، وهذه أوجه متكلفة والظاهر أنها جمل مستقلة لا تعلق بما قبلها من جهة الإعراب.
{الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين} هذا أيضاً مبتدأ وخبره، وقال الزمخشري: وفيه معنى الاختصاص أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون اتباعه فإنهم هم الرابحون وفي هذا الاستئناف لهذا الابتداء وهذا التكرير مبالغة في ردّ مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم انتهى، وهاتان الجملتان منبئتان عن ما فعل الله بهم في مقالتهم قالوا {لنخرجنك يا شعيب} فجاء الإخبار بإخراجهم بالهلاك وأي إخراج أعظم من إخراجهم وقالوا: {لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون} فحكم تعالى عليهم هم بالخسران وأجاز أبو البقاء في إعراب {الذين} هنا أن يكون بدلاً من الضمير في {يغنوا} أو منصوباً بإضمار أعني والابتداء الذي ذكرناه أقوى وأجزل.
{فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} تقدّم تفسير نظيره في قصة صالح عليه السلام.
{فكيف آسى على قوم كافرين} أي فكيف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبّه على العلة التي لا تبعث على الحزن وهي الكفر إذ هو أعظم ما يعادى به المؤمن إذ هما نقضيان كما جاء لا تتراءى ناراً هما وكأنه وجد في نفسه رقّة عليهم حيث كان أمله فيهم أن يؤمنوا فلم يقدر فسرى ذلك عن نفسه باستحضار سبب التسلي عنهم والقسوة فذكر أشنع ما ارتكبوه معه من الوصف الذي هو الكفر بالله الباعث على تكذيب الرّسل وعلى ال


لقف الشيء لقفاً ولقفاناً أخذه بسرعة فأكله أو ابتلعه ورجل ثقف لقف سريع الأخذ ولقيف ثقيف بين الثقافة واللقافة ولقم ولهم ولقف بمعنى ومنه التقفته وتلقفته تلقيفاً. مهما اسم خلافاً للسهيلي إذ زعم أنها قد تأتي حرفاً وهي أداة شرط وندر الاستفهام بها في قوله:
مهما لي الليلة مهماليه *** أودي بنعلي وسرباليه
وزعم بعضهم أنها إذا كانت اسم شرط قد تأتي ظرف زمان وفي بساطتها وتركيبها من ماما أو من مه ما خلاف ذكر في النحو وينبغي أن يحمل قول الشاعر:
أماويّ مه من يستمع في صديقه *** أقاويل هذا الناس ماويّ يندم
على أنه لا تركيب فيها بل مه بمعنى أكفف ومن هي اسم الشرط، الجراد معروف واحده جرادة بالتاء للذكر والأنثى ويميز بينهما الوصف وذكر التصريفيون أنه مشتقّ من الجراد قالوا والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جداً. القمل قال أبو عبيدة: هو الحمنان واحده حمنانة وهو ضرب من القردان وستأتي أقوال المفسرين فيه. الضفدع هو الحيوان المعروف وتكسر داله وتفتح وهو مؤنث وشذّ جمعهم له بالألف والتاء قالوا: ضفدعات. النكث النقض. اليم البحر. قال ذو الرمة:
داوية ودجى ليل كأنهما *** يم تراطن في حافاته الروم
وتقدّمت هذه المادة في فتيمموا إلا أن ابن قتيبة قال: اليم البحر بالسّريانية. وقيل بالعبرانية. التدمير الإهلاك وإخراب البناء. التتبير الإهلاك ومنه التبر لتهالك الناس عليه. وقال ابن عطية والكرماني: التتبير الإهلاك وسوء العقبى وأصله الكسر ومنه تبر الذهب لأنه كساره.
{وأوحينا إلى موسى أن ألق بعصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون}. الظاهر أنه وحيُ إعلام كما روي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال له أنّ الحق يأمرك أن تلقى عصاك وكونه وحي إعلام فيه تثبيت للجأش وتبشير بالنصر، وقال قوم: هو وحي إلهام ألقى ذلك في روعه وأن يحتمل أن تكون المفسّرة وأن تكون الناصبة أي بأن ألق، وفي الكلام حذف قبل الجملة الفجائية أي فألقاها {فإذا هي تلقف} وتكون الجملة الفجائية إخباراً بما ترتب على الإلقاء ولا يكون موحى بها في الذكر ومن يذهب إلى أنّ الفاء في نحو خرجت فإذا الأسد زائدة يحتمل على قوله أن تكون هذه الجملة موحى بها في الذكر إلا أنه يقدر المحذوف بعدها أي فألقاها فلقفته، وقرأ حفص {تلقف} بسكون اللام من لقف، وقرأ باقي السبعة {تلقف} مضارع لقف حذفت إحدى تاءيه إذ الأصل تتلقف، وقرأ البزي بإدغام المضارعة في التاء في الأصل، وقرأ ابن جبير تلقم بالميم أي تبلع كاللقمة {وما} موصولة أي ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه قالوا أو مصدرية أي تلقف إفكهم تسمية للمفعول بالمصدر.
روي أن موسى عليه السلام لما كان يوم الجمع خرج متوكئاً على عصاه ويده في يد أخيه وقد صفّ له السحرة في عدد عظيم فلما ألقوا واسترهبوا أوحى الله إليه فألقى فإذا هي ثعبان عظيم حتى كان كالجبل، وقيل: طال حتى جاز النيل، وقيل: طال حتى جاز بذنبه بحر القلزم، وقيل كان الجمع باسكندرية وطال حتى جاز مدينة البحيرة، وروي أنهم جعلوا يرقون وحبالهم وعصيهم تعظم وعصا موسى تعظم حتى سدّت الأفق وابتلعت الكل ورجعت بعد عصا وأعدم الله العصيّ والحبال ومدّ موسى يده في الثعبان فعاد عصا كما كان فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر فخروا سجّداً مؤمنين بالله ورسوله، قال الزمخشري: أعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة وقالت السّحرة لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا.
{فوقع الحقّ وبطل ما كانوا يعملون} قال ابن عباس والحسن ظهر واستبان، وقال أرباب المعاني الوقوع ظهور الشيء بوجوده نازلاً إلى مستقره، قال القاضي: فوقع الحقّ يفيد قوة الظهور والثبوت بحيث لا يصحّ فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير إلا واقعاً ومع ثبوت الحقّ بطلب وزالت تلك الأعيان التي أتوا بها وهي الحبال والعصي، قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير فوقع في قلوبهم أي فأثر فيها من قولهم فاس وقيع أي مجرد انتهى، و{ما كانوا يعملون} يعم سحر السحرة وسعى فرعون وشيعته.
{فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} أي غلب جميعهم في مكان اجتماعهم أو ذلك الوقت {وانقلبوا} أذلاّء وذلك أنّ الانقلاب إن كان قبل إيمان السحرة فهم شركاؤهم في ضمير {انقلبوا} وإن كان بعد الإيمان فليسوا داخلين في الضمير ولا لحقّهم صغار يصفهم الله به لأنهم آمنوا واستشهدوا وهذا إذا كان الانقلاب حقيقة أما إذا لوحظ فيه معنى الصيرورة فالضمير في {وانقلبوا} شامل للسحرة وغيرهم ولذلك فسّره الزمخشري بقوله وصاروا أذلاّء بهوتين.
{وألقى السحرة ساجدين} لما كان الضمير قبل مشتركاً جرد المؤمنون وأفردوا بالذكر والمعنى خرُّوا سجداً كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم، وقيل: لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا وسجودهم كان لله تعالى لما رأوا من قدرة الله تعالى فتيقنوا نبوّة موسى عليه السلام واستعظموا هذا النوع من قدرة الله تعالى، وقيل: ألقاهم الله سجداً سبب لهم من الهدى ما وقعوا به ساجدين، وقيل سجدوا موافقة لموسى وهارون فإنهم سجدا لله شكراً على وقوع الحقّ فوافقوهما إذ عرفوا الحقّ فكأنما ألقياهم، قال قتادة: كانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة، وقال الحسن: تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا وهؤلاء كفار نشؤوا في الكفر بذلوا أنفسهم لله تعالى.
{قَالوا آمنّا برب العالمين رب موسى وهارون} أي ساجدين قائلين فقالوا في موضع الحال من الضمير في {ساجدين} أو من السحرة وعلى التقديرين فهم ملتبسون بالسجود لله شكراً على المعرفة والإيمان والقول المنبئ عن التصديق الذي محله القلوب ولما كان السجود أعظم القرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بادروا به متلبسين بالقول الذي لا بد منه عند القادر عليه إذ الدخول في الإيمان إنما يدل عليه القول وقالوا رب العالمين وفاقاً لقول موسى إني رسول من ربّ العالمين ولما كان قد يوهم هذا اللفظ غير الله تعالى كقول فرعون أنا ربكم الأعلى نصّوا بالبدل على أنّ ربّ العالمين {ربّ موسى وهارون} وأنهم فارقوا فرعون وكفروا بربوبيته والظاهر أن قائل ذلك جميع السحرة، وقيل: بل قاله رؤساؤهم وسمى ابن إسحاق منهم الرؤساء فقال هم سابور وعازور وخطخط ومصفى وحكاه ابن ماكولا أيضاً، وقال مقاتل: أكبرهم شمعون وبدأوا بموسى قبل هارون وإن كان أكبر سناً من موسى قيل بثلاث سنين لأنّ موسى هو الذي ناظر فرعون وظهرت المعجزتان في يده وعصاه ولأن قوله {وهارون} فاصلة وجاء في طه
{رب هارون وموسى} لأنّ موسى فيها فاصلة ويحتمل وقوع كل منهما مرتّباً من طائفة وطائفة فنسب فعل بعض إلى المجموع في سورة وبعض إلى المجم


{قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين} ما أحسن ما خاطبهم موسى عليه السلام بدأهم أولاً بنسبتهم إلى الجهل ثم ثانياً أخبرهم بأن عبّاد الأصنام ليسوا على شيء بل مآل أمرهم إلى الهلاك وبطلان العمل وثالثاً أنكر وتعجب أن يقع هو عليه السلام في أن يبغي لهم غير الله إلهاً أي {أغير} المستحق للعبادة والألوهية أطلب لكم معبوداً وهو الذي شرفكم واختصكم بالنعم التي لم يعطها من سلف من الأمم لا غيره فكيف أبغي لكم إلهاً غيره ومعنى {على العالمين} على عالمي زمانهم أو بكثرة الأنبياء فيهم، قال ابن القشيري: بإهلاك عدوهم وبما خصّهم من الآيات وانتصب {غير} مفعولاً بأبغيكم أي أبغي لكم غير الله، {وإلهاً} تمييز عن {غير} أو حال أو على الحال {وإلهاً} المفعول والتقدير أبغي لكم إلهاً غير الله فكان غير صفة فلما تقدم انتصب حالاً، وقال ابن عطية: وغير منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر ويحتمل أن ينتصب على الحال انتهى، ولا يظهر نصبه بفعل مضمر لأن أبغي مفرّغ له أو لقوله إلهاً فإن تخيّل أنه منصوب بأبغي مضمرة يفسرها هذا الظاهر فلا يصحّ لأنّ الجملة المفسرة لا رابط فيها لا من ضمير ولا من ملابس يربطها بغير فلو كان التركيب أغير الله أبغيكموه لصحّ ويحتمل وهو فضلكم أن يكون حالاً وأن كون مستأنفاً.
{وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} وقرأ الجمهور {أنجيناكم} وفرقة نجّيناكم مشدداً وابن عامر أنجاكم فعلى أنجاكم يكون جارياً على قوله {وهو فضلكم} خاطب بها موسى قومه وفي قراءة النون خاطبهم الله تعالى بذلك، وقال الطبري: الخطاب لمن كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تقريعاً لهم بما فعل أوائلهم وبما جاؤوا به وتقدّم تفسير نظير هذه الآية في أوائل البقرة، وقرأ نافع {يقتلون} من قتل والجمهور من قتل مشدداً.
{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة} روي أنّ موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى ربه تعالى الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتمّ الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، وقيل أوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك فأمره أن يزيد عليه عشرة أيام من ذي الحجة لذلك، وقيل أمره الله بأن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها بما يقربه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها وأجمل ذكر الأربعين في البقرة وفصل هنا.
وقال الكلبي: لما قطع موسى البحر ببني إسرائيل وغرق فرعون قالت بنو إسرائيل لموسى: ائتنا بكتاب من ربنا كما وعدتنا وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً لينطلقوا معه فلما تجهّزوا قال الله تعالى لموسى أخبر قومك أنك لن تأتيهم أربعين ليلة وذلك حين أتمت بعشر فلما خرج موسى بالسبعين أمرهم أن ينتظروه أسفل الجبل وصعد موسى الجبل وكلمه الله أربعين يوماً وأربعين ليلة وكتب له الألواح ثم إنّ بني إسرائيل عدوا عشرين ليلة وعشرين يوماً وقالوا قد أخلفنا موسى الوعد وجعل لهم السّامري العجل فعبدوه، وقيل زيدت العشر بعد الشهر للمناجاة، وقيل: التفت في طريقه فزيدها، وقيل: زيدت عقوبة لقومه على عبادة العجل، وقيل: أعلم موسى بمغيبه ثلاثين ليلة فلما زاده العشر في مغيبه لم يعلموا بذلك ووجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم فقال السامري هلك موسى وليس براجع وأضلّهم بالعجل فاتبعوه، قاله ابن جريج وفائدة التفصيل قالوا: إنّ الثلاثين للتهيؤ للمناجاة والعشر لإنزال التوراة وتكليمه، وقال أبو مسلم: بادر إلى ميقات ربه قبل قومه لقوله {وما أعجلك عن قومك يا موسى} الآية فجائز أن يكون أتى الطور عند تمام الثلاثية فلما أعلم بخبر قومه مع السامري رجع إلى قومه قبل تمام مدة الوعد ثم عاد إلى الميقات في عشر أخر، قيل: لا يمتنع أن يكون وعدان أول حضره موسى وثان حضره المختارون ليسمعوا كلام الله فاختلف الوعد لاختلاف الحاضرين والثلاثون هي شهر ذي القعدة والعشر من ذي الحجة قاله ابن عباس ومسروق ومجاهد وتقدّم الخلاف في قراءة ووعدنا وقالوا انتصب {ثلاثين} على أنه مفعول ثان على حذف مضاف فقدره أبو البقاء إتيان ثلاثين أو تمام ثلاثين، وقال ابن عطية {وثلاثين} نصب على تقدير جلناه أو مناجاة ثلاثين وليست منتصبة على الظرف والهاء في {وأتممناها} عائدة على المواعدة المفهومة من {واعدنا}، وقال الحوفي الهاء والألف نصب باتممناها وهما راجعتان إلى {ثلاثين} ولا يظهر لأنّ الثلاثين لم تكن ناقصة فتممت بعشر وحذف مميز عشر أي عشر ليال لدلالة ما قبله عليه وفي مصحف أبي وتممناها مشدّداً والميقات ما وقت له من الوقت وضربه له وجاء بلفظ ربه ولم يأتِ على {واعدنا} فكان يكون للتركيب فتمّ ميقاتنا لأن لفظ {ربه} دالّ على أنه مصلحة وناظر في أمره ومالكه والمتصرف فيه، قيل: والفرق بين الميقات والوقت أنّ الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيء وانتصب {أربعين} على الحال قاله الزمخشري، الحال فيه فقال أتى بتم بالغاً هذا العدد فعلى هذا لا يكون الحال {أربعين} بل الحال هذا المحذوف فينا في قوله وأربعين ليلة نصب على الحال وقال ابن عطية أيضاً ويصح أن يكون {أربعين} ظرفاً من حيث هي عدد أزمنة، وقيل {وبلغ أربعين} مفعول به بتمّ لأن معناه بلغ والذي يظهر أنه تمييز محول من الفاعل وأصله فتم أربعون ميقات ربه أي كملت ثم أسند التمام لميقات وانتصب أربعون على التمييز والذي يظهر أن هذه الجملة تأكيد وإيضاح، وقيل: فائدتها إزالة توهم العشر من الثلاثين لأنه يحتمل إتمامها بعشر من الثلاثين، وقيل: إزالة توهم أن تكون عشر ساعات أي أتممناها بعشر ساعات.
{وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} وقرء شاذاً {هارون} بالضم على النداء أي يا هارون أمره حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها أن يكون خليفته في قومه وأن يصلح في نفسه أو ما يجب أن يصلح من أمر قومه ونهاه أن يتبع سبيل من أفسد وفي النهي دليل على وجود المفسدين ولذلك نهاه عن اتباع سبيلهم وأمره إياه بالصلاح ونهيه عن اتباع سبيل المفسدين هو على سبيل التأكيد لا لتوهّم أنه يقع منه خلاف الإصلاح واتباع تلك السبيل لأن منصب النبوّة منزّه عن ذلك ومعنى {اخلفني} استبد بالأمر وذلك في حياته إذ راح إلى مناجاة ربه وليس المعنى أنك تكون خليفتي بعد موتي ألا ترى أن هارون عليه السلام مات قبل موسى عليهما السلام، وليس في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعليّ «أنت مني كهارون من موسى» دليل على أنه خليفته بعد موته إذ لم يكن هارون خليفة بعد موت موسى وإنما استخلف الرسول عليّاً على أهل بيته إذ سافر الرسول عليه السلام في بعض مغازيه كما استخلف ابن أم مكتوم على المدينة فلم يكن في ذلك دليل على أنه يكون خليفة بعد موت الرسول.
{ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} أي للوقت الذي ضربه له أي لتمام الأربعين كما تقول أتيته لعشر خلون من الشهر ومعنى اللام الاختصاص والجمهور على أنه وحده خصّ بالتكليم إذ جاء للميقات، وقال القاضي: سمع هو والسبعون كلام الله، قال ابن عطية: خلق له إدراكاً سمع به الكلام القائم بالذات القديمة الذي هو صفة ذات، وقال ابن عباس وابن جبير: أدنى الله تعالى موسى حتى سمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ وقال الزمخشري: {وكلمه ربه} من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أنْ يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظاً في اللوح وروي أن موسى كان يسمع الكلام في كل جهة، وعن ابن عباس كلمة أربعين يوماً وأربعين ليلة وكتب له الألواح، وقيل: إنما كلمة في أول الأربعين انتهى، وقال وهب كلمه في ألف مقام وعلى أثر كل مقام يرى نور على وجهه ثلاثة أيام ولم يقرب النساء مذ كلّمه الله وقد أوردوا هنا الخلاف الذي في كلام الله وهو مذكور ودلائل المختلفين مذكور في كتب أصول الدين وكلّمه معطوف على جاء، وقيل حال وعدل عن قوله وكلمناه إلى قوله {وكلّمه} ربه للمعنى الذي عدل إلى قوله {فتم ميقات ربه} و{فلما تجلّى ربه}.
{قال ربّ أرني أنظر إليك}. قال السدّي وأبو بكر الهذلي: لما كلمه وخصّه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشوّف إلى ذلك فسأل ربه أن يريه نفسه. قال الزجاج: شوّقه الكلام فعيل صبره فحمله على سؤال الرؤية، وقال الرّبيع: لم يعهد إليه في الرؤية فظن أن السؤال في هذا الوقت جائز، وقال السدي: غار الشيطان في الأرض فخرج بين يديه فقال إنما يكلمك شيطان فسأل الرؤية ولو لم تجز الرؤية ما سألها؟ قال ابن عطية: ورؤية الله عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلاً لأنه من حيث هو موجود تصحّ رؤيته وقررت الشريعة رؤية الله في الآخرة ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر الشرع فموسى عليه السلام لم يسأل محالاً وإنما سأل جائزاً وقوله {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل} الآية ليس بجواب من سأل محالاً وقد قال تعالى لنوح عليه السلام: {فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} فلو سأل موسى محالاً لكان في الجواب زجر ما وتيئيس، وقال الكرماني وغيره: في الكلام محذوف تقديره لن تراني في الدنيا، وقيل لن تقدر أن تراني، وقيل لن تراني بسؤالك، وقيل لن تراني ولكن ستراني حين أتجلى للجبل.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف طلب موسى عليه السلام ذلك وهو من أعلم الناس بالله تعالى وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز وبتعاليه عن الصفة التي هي إدراك ببعض الحواس وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة ومنع المجبرة إحالته في العقول غير لازم لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم وكيف يكون طالبه وقد قال حين أخذتهم الرّجفة الذين قَالُوا {أرنا الله جهرة} {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} إلى قوله {تضل بها من تشاء} فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالاً، (قلت): ما كان طلبه الرؤية إلا ليسكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالاً وتبرأ من فعلهم وليلقمهم الحجة وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحق فلجّوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا لا بدّ ولن نؤمن لك حتى نراه فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله لن تراني ليتيقنوا وينزاح عنهم ما كان داخلهم من الشبهة فلذلك قال {ربّ أرني أنظر إليك} (فإن قلت): فهلا قال أرهم ينظرون إليك (قلت): لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى وهم يسمعون فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه كما أسمعه كلامه فسمعوه معه إرادة مبنية على قياس فاسد فلذلك قال موسى {أرني أنظر إليك} ولأنه إذا زجر عما طلب وأنكر عليه مع نبوته واختصاصه وزلفته عند الله وقيل له لن يكون ذلك كان غيره أولى بالإنكار ولأن الرسول إمام أمته فكان ما يخاطب به أو يخاطب راجعاً إليهم وقوله أنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم دليل على أنه ترجمة على مقترحهم وحكاية لقولهم وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه مقابلاً بحاسة النظر فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المسلمين، وثاني مفعول {أرني} محذوف أي أرني نفسك اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك انتهى.
{قال لن ترانى}. قال ابن عطية نصّ على منعه الرؤية في الدنيا ولن تنفي المستقبل فلو بقينا على هذا النفي بمجرّده لتضمن أنّ موسى لا يراه أبداً ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى الحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة فموسى عليه السلام أحرى برؤيته، قال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى {لن}، (قلت): تأكيد النفي الذي تعطيه لا وذلك أن لا تنفي المستقبل تقول لا أفعل غداً فإذا أكدت نفيها قلت لن أفعل غداً والمعنى أن فعله ينافي حال كقوله {لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له} وقوله {لا تدركه الأبصار} نفي للرؤية فيما يستقبل ولن تراني تأكيد وبيان (فإن قلت): كيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ لقوله {أنظر إليك}، (قلت): لما قال {أرنى} بمعنى اجعلني متمكناً من الرؤية التي هي الإدراك علم أنّ الطلبة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه فقيل لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ.
{ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} قال مجاهد وغيره: ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشدّ فإن استقرّ وأطاق الصبر لهيبتي فسيمكنك أنت رؤيتي، قال ابن عطية: فعلى هذا إنما جعل الله له الجبل مثالاً، وقالت فرقة: إنما المعنى سأبتدئ لك على الجبل فإن استقرّ لعظمتي فسوف تراني انتهى، وتعليق الرؤية على تقدير الاستقرار مؤذن بعدمها إن لم يستقر ونبّه بذلك على أنّ الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقرّ وهذا تسكين لقلب موسى وتخفيف عنه من ثقل أعباء المنع. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف اتصل الاستدراك في قوله تعالى {ولكن انظر إلى الجبل} بما قبله، (قلت): تصل به على معنى أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلب الرؤية لأجلهم كيف أفعل به وكيف أجعله دكّاً بسبب طلبك للرؤية لتستعظم ما أقدمت عيه بما أريك من عظيم أثره كأنه عز وعلا حقّق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله تعالى
{وتخرّ الجبال هدّاً أن دعوا للرحمن ولداً} {فإن استقر مكانه} كما كان مستقراً ثابتاً ذاهباً في جهانه {فسوف تراني} تعريض لوجود الرؤية لوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حتى يدكّه دكًّا ويسوّيه بالأرض وهذا كلام مدمج بعضه في بعض وأولاد على أسلوب عجيب ونظم بديع ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك ثم كيف ثنّى بالوعيد بالرّجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية أعني قوله {فإن استقرّ مكانه فسوف ترانى} انتهى وهو على طريقة المعتزلة في نفي رؤية الله تعالى، ولهم في ذلك أقاويل أربعة: أحدها: ما رووا عن الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة وهو عارف بعدله وبربه وبتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفاً على السماع ورد ذلك وبأنه يلزم أن تكون معرفته بالله أقل درجة من معرفة أرذال المعتزلة وذلك باطل بالإجماع، الثاني: قال الجبائي وابنه أبو هاشم: سأل الرؤية على لسان قومه فقد كانوا مكثرين للمسألة عنها لا لنفسه فلما منع ظهر أن لا سبيل إليها وردّ بأنه لو كان كذلك لقال أرهم ينظروا إليك ولقيل لن تروني وأيضاً لو كان محالاً لمنعهم عنه كما منعهم عن جعل الآلهة لهم بقوله {إنكم قوم تجهلون}، وقال الكعبي سأله الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته كما تقول في معرفة أهل الآخرة، وردّ ذلك بأنه يقتضي حذف مضاف وسياق الكلام يأبى ذلك فقد أراه من الآيات ما لا غاية بعدها كالعصا وغيرها، وقال الأصمّ المقصود أن يذكر من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع الرؤية حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي وأل في {الجبل} للعهد وهو أعظم جبل بمدين يقال له ارريين قال ابن عباس تطاولت الجبال للتجلي وتواضع ارريين فتجلّى له.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6